22 December 2006

زوبعة في فنجان

ظهر فى الشارع المصرى اهتمام بالغ بقضية" مليشيا الأخوان " كما يطلقون عليها ذلك وتناولت الصحف القومية من جهتها تلك القضية من جهتها , وقامت الصحف المعارضة و المستقلة بتناول القضية من وجه أخر , لكن فى كل ما قيل شدتنى مقال متميز يتناول تلك القضية فى سرد رائع من كاتب متميز هو" فهمى هويدى " وقررت أن أنشر هذا المقال الذى نشر فى جريدة الشرق الأوسط تحت عنوان :
زوبعة في فنجان

حين كانت الأخبار معلقة طيلة الأسبوع الماضي بما يجري في العراق وفلسطين ولبنان، فإن الرأي العام المصري شغلته فرقعة إعلامية أطلق عليها «ميليشيا الاخوان». وهي الفرقعة التي تناقلت أنباءها وصورها وكالات الأنباء ومكاتب الصحف العربية في القاهرة، الامر الذي سوق المسألة، وأحدث صداها في كتابات عدة. اضافت مسألة الميليشيا المذكورة الى قائمة شواغل وهموم الناس، حتى صرت أخشى ان يؤخذ الامر على محمل الجد، بحيث نقرأ لمن يطالب «بتحرير» مصر من الميليشيا. بحسبانها امتدادا للمحاكم الاسلامية في الصومال وربما ذراعا جديدا لتنظيم القاعدة، او لمن يدعو الى تدخل دولي لتعزيز موقف «المجتمع المدني» من تهديدات الميليشيا، ولحماية أقباط مصر من الخطر الذي يمكن ان يترتب على تزايد نفوذها.. الخ.

وقبل أن تتحول الفرقعة الى هم عربي، خصوصا انها صارت الآن قضية بين ايدي نيابة أمن الدولة المصرية اتهم فيها 120 شخصا، فان تحرير المسألة بات مهما، لكي يكون الجميع على بينة من حجمها وسياقها. ذلك ان الجميع يعرفون ان مصر شهدت خلال الأعوام الثلاثة الاخيرة بوجه أخص عديدا من تجليات الحراك السياسي النشط، الذي يعد أمرا محمودا اذا ما احتفظ بطابعه التنافسي السلمي، من حيث انه يعبر عن حيوية المجتمع، وعلى حرص خلاياه وشرائحه على إثبات الحضور والمشاركة في الشأن العام، غير ان الامر ليس كذلك وانما في دول العالم الثالث، حيث لا يخلو ذلك التنافس من تجاذب بين السلطة وتلك الشرائح والجماعات، وهو ما حدث في مصر، اذ تجلى التجاذب في اشتباكات للسلطة مع القضاة، ومع أساتذة الجامعات الذين انخرطوا فيما سمي بحركة 9 مارس (آذار)، (نحن أيضا لدينا حركات آذارية وليس اللبنانيون وحدهم!)، ومع النقابات المهنية التي وضع بعضها تحت الحراسة الحكومية، ثم مع حركة «كفاية»، فضلا عن بعض منظمات حقوق الانسان وبعض النشطاء السياسيين، الذين يعد «الاخوان» أبرزهم وأقواهم حضورا في الشارع، ولذلك فان جولات الاشتباك والتجاذب بين السلطة والاخوان لم تتوقف خلال تلك الفترة، وقبلها ايضا، وكانت «الانتخابات» هي الساحة التي تصاعدت فيها حدة التجاذب سواء كانت تشريعية او بلدية او عمالية او طلابية. واضح طول الوقت ان حركة الاخوان التي لم تكتسب شرعية قانونية منذ حل الجماعة عام 1954، وفي حين ظلت تمارس شرعية واقعية طول الوقت من خلال الانتشار المستمر في الشارع، في مختلف مجالات النشاط الاهلي المتاحة. هذه الجماعة ظلت تلح على إثبات حضورها وتأكيد شرعيتها من خلال الانتخابات التي يحتكم فيها الى الناس. وظل ذلك الحرص على إثبات الوجود (هل نقول انتزاع الشرعية؟) مصدرا مستمرا للاحتكاك بين عناصر الإخوان واجهزة الأمن.

هذا الاحتكاك حدث في الانتخابات التشريعية التي جرت في مصر أخيرا عام 2005 ولم يكن مفاجئا ولا مستغربا ان يحدث في انتخابات الاتحادات العمالية والطلابية الجامعية هذا العام. وكان منع عناصر الإخوان من الترشيح، عن طريق شطب اسمائهم في القوائم او حجب استمارات الترشيح عنهم او من خلال عدم تمكينهم من توفير الاوراق التي تصدرها الجهات الرسمية لاستيفاء شروط الترشيح، مثل هذه الأساليب، اتبعت في حالات عدة. لكن التجاذب اتخذ اشكالا عدة أخرى، كان من بينها توقيف بعض المرشحين، او استخدام البلطجية في الاعتداء علي مؤيديهم، او استخدام الشرطة مباشرة في القيام بما «يجب».

العناصر الاخوانية تعاملت مع هذا الموقف بردود فعل مختلفة، كان من بينها اقامة اتحادات موازية، اي اجراء انتخابات اخرى غير تلك التي تتحكم فيها أجهزة الامن، يتنافس فيها المرشحون الذين شطبت اسماؤهم، ويمكن الطلاب او العمال من التصويت فيها بدون ضغوط او قيود، بينما بدا وكأنه جهد لتخليق شرعية جديدة لكن ذلك المسعى قوبل برفض وادانة من جانب الجهات الرسمية، الأمر الذي تمت مواجهته باجراءات امنية متعددة، وهذا ما حدث مع طلاب جامعتي عين شمس والازهر، والاخيرة تهمنا لأن أحداثها هي التي استدعت الفرقعة التي تحولت الى ضجة كان لها دويُّها الاعلامي، الذي يصل صداه الى قاعة المجلس النيابي (مجلس الشعب)، اذ مورست الضغوط التي ذكرناها على طلاب جامعة الازهر، فانهم لجأوا الى انتخاب الاتحاد البديل، ولكن إدارة الجامعة ردت بفصل ثمانية من اولئك الطلاب فرد هؤلاء بالاحتجاج والتظاهر، ثم بالاعتصام أمام مكتب مدير الجامعة، وهم معتصمون، فإن الطلاب استثمروا الوقت في تقديم فقرات متنوعة، فمنهم من أدى فقرة خطابية، ومنهم من قدم فقرة تمثيلية، واذ كان بينهم نفر من دارسي التربية الرياضية، فان هؤلاء ارتدوا ثيابا سوداء ووضعوا أقنعة أخفت وجوههم، وقدموا فقرة لمدة تراوحت بين عشر و30 دقيقة، لعبوا فيها «الكاراتيه» و«الكونغ فو». وليس معروفا بالضبط الظروف التي ادت الى التقاط صور المشاركين في الفقرة الاخيرة، وهل هي مجرد مصادفة ام انه ترتيب من قبل اجهزة الرصد والمتابعة الامنية، ولكن الشاهد ان العملية تم تصويرها وجرى بثها تلفزيا كما انها نشرت في احدى الصحف بتركيز خاص على الثياب والاقنعة السوداء. ولسبب غير مفهوم ـ مهنيا في الاقل ـ فان الصور ذاتها نشرت مرتين متتاليتين على ثمانية أعمدة. ووصف الطلاب الذين أدوا الفقرة بأنهم «ميليشيا» وهكذا مرة واحدة ـ رغم ان احدا منهم لم يحمل حتى عصا في يده، او شفرة حلاقة في جيبه. لكن التعبئة الاعلامية كانت كفيلة بإشاعة الرعب والفزع بين الناس، الذين وجدوا الاعلام يلح على مسألة «الميليشيا»، الأمر الذي استدعى الى الذاكرة صور المقاتلين في فلسطين والعراق وغيرهما، والذين يتخفون وراء الاقنعة حتى لا يتعرف «العدو» عليهم.

لِنقلْ ايضا ان التصرف اتسم بالرعونة والغباء الشديد، فلا الموقف يستدعي اللجوء الى هذا المسلك، ولا الجامعة مكان الظهور بهذا المظهر، بالتالي فلا مجال لتبرير ما فعله اولئك الطلاب، وانما يجب ادانة سلوكهم وتخطئتهم. كما ان لوائح الجامعة تجيز محاسبتهم تأديبيا. غير ان الامر لم يعالج لا جامعيا ولا سياسيا، وانما تمت مواجهته أمنيا وبشدة لافتة للنظر، الامر الذي كان باعثا على الحيرة والدهشة من اكثر من زاوية، من ناحية فان الاعلام الرسمي تعامل مع الفقرة الغبية التي قدمها ستة طلاب تتراوح أعمارهم بين 17 و20 سنة بانها نقطة تحول ونظير شؤم، ولحظة كارثية تنذر بنشوب حرب أهلية تغرق البلاد في بحر من الدم! هذا التهويل استمر عدة أيام، وأحدث صداه السلبي في المجتمع، بين المسلمين وغير المسلمين، وبين المستثمرين العرب والاجانب، وأشاع جوا من الخوف بدا مسوغا لتوجيه ضربة امنية واسعة النطاق، اسفرت عن اعتقال 140 شخصا وتقديمهم لنيابة أمن الدول. ولم تتوقف التعبئة الاعلامية رغم ذلك، وانما تواصلت في اتجاه تصعيدي، دعا الى ضرورة القمع والبتر والضرب من حديد على عناصر «الفتنة» التي تهدد استقرار المجتمع وأمنه.

ما بدا لافتا للنظر في التناول الاعلامي للقضية ان الصحف القومية بنت حملة الترويع والتنديد، في حين ان الصحف المعارضة والمستقلة ادانت تصرف الطلاب حقا، لكنها ركزت علي التدخلات الامنية والضغوط التي تسببت في حرمان الطلاب من الترشيح للانتخابات، وادت الى فصل بعضهم من الدراسة او طردهم من المدن الجامعية، الامر الذي دفع زملاءهم الى التظاهر والاحتجاج والاعتصام. إن شئت قل فان الصحف القومية سلطت الضوء على النتيجة، في حين ان الصحف المستقلة اهتمت اكثر بالأسباب والدوافع التي اوصلت الى النتيجة.

بطبيعة الحال، فان الامر لم يخل من أصوات عاقلة دعت الى ضرورة التعامل السياسي وليس الامني مع القضية، بما يقود الى احتواء التيار الاسلامي في اطار الشرعية السياسية والقانونية، بدلا من البحث عن ذرائع لتشويه صورته ومحاولة تصفيته من خلال القمع والضربات الامنية الاستباقية، وهي المحاولات التي لم تحقق نجاحا يذكر طيلة الخمسين عاما الماضية. كما نبهت تلك الاصوات الى ان العنف ليس ظاهرة أصيلة في التيار الاسلامي العريض في مصر، وانما هو أمر طارئ وشاذ تبنته بعض الجماعات الهامشية التي اصبحت جزءاً من التاريخ، ولذلك فانه اذا كانت مواجهة التطرف مهمة، فأهم منها وأجدى بكثير ان يتم تشجيع الاعتدال من خلال التعاطي السياسي وليس من خلال هراوة الامن، باعتبار ان ذلك هو المدخل الحقيقي لضمان استقرار المجتمع وعافيته السياسية. لكن تلك الأصوات لم تسمع، شأنها في ذلك شأن كل الطروحات العاقلة التي لا تجيد إحداث الصخب والضجيج، لذلك فانها تاهت وسط الزحام، حتى بدت وكأنها نفخ في قِرْبَةٍ مقطوعةٍ ـ وا أسفاه!

No comments: